طفرة المسجد الجامع
بني المسجد الأموي ليكون صرحا معلنا بجلاء عن وجود الدولة الإسلامية الفتية المتمثلة بالحكومة أو الخلافة الأموية، تلك الخلافة الغنية التي كانت تحب الترف وتهوى إظهار القوة والتميز والإعلان عن نفسها بوضوح لا يقبل التراجع.
وقد كان في بناء المسجد الجامع أو المسجد الأموي _كما أطلق عليه لاحقا_ في دمشق تغييرا جذريا في نمط البناء عما كان قد تم بناءه سابقا في بقية المدن والأمصار الإسلامية.
قام المسجد الأموي على عقيدة جديدة تدخل فيها الحكم الأموي بنفس وفكر مختلفين بعض الشيء عما كان موجود سابقا.
حيث كان المسجد ما قبل الحكم الأموي يبنى بهدف وظيفي من أجل التعبد, ولم يكن هناك هوى أو احتياجا شخصيا لدى الخلفاء الأوائل لإبراز عظمتهم الدنيوية من خلال أبنيتهم, ولم يكن أيضا لديهم الهاجس لنسبها لأنفسهم أو لجعلها متحدثا رسميا عن ملكهم, فالأمر لديهم كان مختلفا عن تلك النوازع تماما. وهذا ما سبب تبسيط أشكال البناء والتزيين _رغم احتكاك المسلمين في ذلك الوقت بالحضارات الأخرى_ كي تنحصر بالأسباب الوظيفية وهو خلق مكان واسع مريح لطيف وجميل جمالا غير ملهٍ، يجمع الناس من أجل العبادة والاجتماع والتشاور وأخذ البيعة (الانتخاب) والانطلاق للحملات والفتوحات.. بلا أي تعظيم لقيمة البناء نفسها وبلا أي تفخيم للزخارف والتزيين التي كانت تمثل الجانب الدنيوي في ذلك الوقت.
على العكس تماما من الهدف الأموي آنذاك الذي التفت بعد تثبيت الحكم إلى التفخيم و التجميل وبناء الصروح الناطقة بهيبة الملك التي انحصرت بالأسرة الأموية في وقتها، إذ كلما تضخم البناء وازدادت روعته وبهاؤه كلما كان ذلك دليلا على قوة وسلطان الحكم واستقراره.
كل هذا بالإضافة إلى غنى الدولة المتزايد والاحتكاك بالمعماريين والحرفيين المسلمين وغير المسلمين أدى إلى إفراز تلك الطفرة المعمارية الهائلة في التاريخ الإسلامي المتمثلة بالمسجد الجامع أو المسجد الأموي.
ما يميز الأموي ويجعله بداية لعصر معماري جديد كان عددا من الإضافات الجديدة والهامة: فقد تمت مثلا إضافة المنارات أو(المآذن) لتصبح جزءا لا يتجزأ من عمارة المساجد بعده، الأمر الذي لم يكن موجودا على المتواتر في البحث التاريخي قبل الأموي، فالمساجد في الجزيرة العربية كانت تبنى بلا مآذن حتى ذلك الوقت، والمئذنة وحدها كفيلة كعنصر جديد بإضفاء تلك الهالة والجمال على التكوين المعماري للبناء ككل، فما بالنا إن نظرنا إلى القبة الرائعة والشاهقة التي تسمى قبة النسر من شدة ارتفاعها, وما بالنا إن دققنا في كل هذا الكم الهائل من التزيين والتذهيب والزخرفة الملونة بأسلوب جديد وجريء واستعراضي! كل هذا مضافا إليه الكمال المعماري بالأعمدة والفسقية الخارجية المظلة والأروقة المديدة والاتساع جعل هذا المسجد تحفة معماري وطفرة من طفرات الزمن باقية حتى الآن بكل حضورها الهائل في دمشق.
يستطيع الداخل إلى المسجد الأموي أن يلاحظ على الفور البهاء والرحابة والزخم الجمالي المرافق للاتساع.. وستجري العين فور الدخول لتتسلق الأعمدة الباسقة ولتكتشف الزخرفة النافرة في رأس كل عمود.. لتنتقل إلى جدران الواجهات وما تحمله من لوحات زخرفية يغلب عليها تكامل لوني مابين الأزرق والأصفر الذهبي الذي يعكس ضوء الشمس في وقت ما من النهار فيتلألأ كأنه جوهرة ثمينة عملاقة.
أسراب الحمام الدمشقي الكثيرة تسكن القرميد المحيط بالمسجد وتقوم بجولات فوق الفسحة السماوية الرحبة لترفرف فوق المصلين في الخارج فيمنح صوت رفرفتها الراحة للنفس ويعطي آفاقا غريبة من السكينة.
ثم تجري العين لتلتصق بالكتلة المذهبة التي كانت تستخدم كخزنة لجمع مال المسلمين، وهي عبارة عن بناء أسطواني مضلع تعلوه قبة، وهو قائم فوق عدد من الأعمدة القصيرة في طرف الفسحة السماوية.
أما داخل حرم المسجد فمتعة أخرى متكاملة مابين الزخارف المنتشرة والنوافذ المعشقة الملونة والمحاريب الأربعة المزينة والحضور المركزي للضريح الذي يقال أنه قد دفن فيه رأس النبي يحيى (يوحنا المعمدان) وما يكتنف هذا الضريح من غموض وسحر وغرق في التاريخ وتمازج بين الديانات السماوية والأنبياء المرسلين من أجل حقيقة التوحيد.
يقع المسجد الأموي وسط المدينة القديمة. أمر ببنائه الخليفة الأموي السادس الوليد بن عبد الملك عام 86 هـ / 705 م.
محمد الحموي